إكرام الضيف

غار حراء.. منطلق الوحي عند جبل النور

حين كانت قريش منهمكة في تعظيم آلهتها من الأصنام عند الكعبة المشرفة، عصم الله نبيه صلّى الله عليه وسلّم، عن السجود لها أو تبجيلها، فكان صلّى الله عليه وسلم على الفطرة السوية، والعناية الإلهية الأمينة، فكان عن قومه في معزل في جوف غار حراء بجبل النّور..

 

رحلة يوميّة تقطع فيها خطاه الشريفة بطحاء مكة، باتجاه الجبل، على يسار الذاهب إلى جبل عرفات في شمال شرقي الكعبة المشرفة، على مسافة أربعة كيلومترات.. فإذا ما بلغ، صلّى الله عليه وسلّم، الجبل دار من ناحيته الغربية صعودًا إلى الغار؛ الذي يبلغ طوله أربعة أذرع، وعرضه ذراع وثلاثة أرباع، وهو بهذه الصفة لا يتسع إلا لأربعة أشخاص أو خمسة على الأكثر، بابه تلقاء الشمال، مستقبلًا بيت الله الحرام.. هناك يبسط صلّى الله عليه سلم قلبه في حضرة الجلال، يعبد الله توحيدًا خالصًا، مستأنسًا بالله وحده، وغارقًا في عظيم ملكه وملكوته.. ويبقى على تلك الحالة الليالي ذوات العدد، ينزل عنه بين الفينة والأخرى، غير أنه، صلّى الله عليه وسلّم كان يقضي شهر رمضان كله فى الغار، وزوجته؛ أم المؤمنين؛ خديجة رضي الله عنها، تأتيه بالطعام والشراب. فيتزوّد في خلوته المباركة.

 

حتى إذا ما بلغ الأربعين من عمره الشريف، جاءته البشارة بالوحي، ونزل عليه الروح القدس، سيدنا جبريل عليه السلام بأول آي الذكر الحكيم: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ”، في سياق القصة المشهورة والمتواترة، والتي روتها أم المؤمنين السيدة عائشة رضي الله عنها بقولها: (أوَّلُ ما بُدِئَ به رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ مِنَ الوَحْيِ الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ في النَّوْمِ، فَكانَ لا يَرَى رُؤْيا إلَّا جاءَتْ مِثْلَ فَلَقِ الصُّبْحِ، ثُمَّ حُبِّبَ إلَيْهِ الخَلاءُ، وكانَ يَخْلُو بغارِ حِراءٍ فَيَتَحَنَّثُ فيه – وهو التَّعَبُّدُ – اللَّيالِيَ ذَواتِ العَدَدِ قَبْلَ أنْ يَنْزِعَ إلى أهْلِهِ، ويَتَزَوَّدُ لذلكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إلى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِها، حتَّى جاءَهُ الحَقُّ وهو في غارِ حِراءٍ، فَجاءَهُ المَلَكُ فقالَ: اقْرَأْ، قالَ: ما أنا بقارِئٍ، قالَ: فأخَذَنِي فَغَطَّنِي حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، قُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: اقْرَأْ، فَقُلتُ: ما أنا بقارِئٍ، فأخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أرْسَلَنِي، فقالَ: (اقْرَأْ باسْمِ رَبِّكَ الذي خَلَقَ (1) خَلَقَ الإنْسانَ مِن عَلَقٍ (2) اقْرَأْ ورَبُّكَ الأكْرَمُ).

 

وتكمل السيدة عائشة الحديث فتقول: (فَرَجَعَ بهَا تَرْجُفُ بَوَادِرُهُ، حتَّى دَخَلَ علَى خَدِيجَةَ، فَقالَ: زَمِّلُونِي زَمِّلُونِي، فَزَمَّلُوهُ حتَّى ذَهَبَ عنْه الرَّوْعُ، فَقالَ: يا خَدِيجَةُ، ما لي؟ وأَخْبَرَهَا الخَبَرَ، وقالَ: قدْ خَشِيتُ علَى نَفْسِي، فَقالَتْ له: كَلَّا، أبْشِرْ، فَوَاللَّهِ لا يُخْزِيكَ اللَّهُ أبَدًا؛ إنَّكَ لَتَصِلُ الرَّحِمَ، وتَصْدُقُ الحَدِيثَ، وتَحْمِلُ الكَلَّ، وتَقْرِي الضَّيْفَ، وتُعِينُ علَى نَوَائِبِ الحَقِّ، ثُمَّ انْطَلَقَتْ به خَدِيجَةُ حتَّى أتَتْ به ورَقَةَ بنَ نَوْفَلِ).

 

بهذه السيرة العطرة، والمنزلة التي بلغها جبل النور، وغار حراء، فلا غرو أن يجد العناية، ويكون مقصد الحجّاج والمعتمرون وزوّار بيت الله الحرام، ليقفوا متأملين، علوّه البالغ (643) مترًا، وانحداره الشديد من 380 مترًا حتى يصل إلى مستوى 500 متر، واستمرار انحداره على شكل زاوية قائمة حتى قمته، مسرّحين الأبصار في مساحته التي تبلغ (5) كيلومترات و(250) مترًا مربعًا، فيما تشبه قمته القبة، وسنام الجمل، مستذكرين قدسية المكان، وعظمة الحدث، وجلال المنّة بالوحي الأمين.

الوسوم:
مشاركة: